هل انقرض العباقرة
بالنسبة للذين وجدوا على سطح الأرض يعتبر العباقرة عملة شديدة الندرة . ومع ذلك، وبدون أسباب واضحة تظهر في كل أمة موجة من العباقرة (في نفس الجيل) وتبدع غالبا (في نفس التخصص).. والأمر هنا يمكن تشبيهه بفترة التسخين الطويلة التي ما تلبث أن تنتهي ب "فقاقيع" تظهر فجأة - ثم تختفي في نفس الوقت تقريبا.. ونظرة فاحصة على تواريخ ميلاد المشاهير (من الموسيقيين والأدباء والفلاسفة وعلماء الفيزياء والفلك) تثبت هذه الظاهرة وتجعلنا نتساءل عن ماهية الظروف والدوافع التي ساهمت في إبراز تلك المجاميع الفذة في هذا الوقت بالذات ..
هذه الحقيقة التاريخية العجيبة هي التي دفعت الأستاذ أنيس منصور لتأليف كتاب بعنوان "في تلك السنة أولئك العظماء ولدوا معا".. والسنة التي يقصدها هي عام 1889- والعظماء الذين يعنيهم من ضمنهم العقاد وطه حسين وهتلر ونهرو وشابلن وهابل ووو ........
أما أكبر موجة من العباقرة ظهرت في التاريخ فتلك التي وجدت في أثينا قبل الميلاد . فوجود مجموعة من العباقرة والفلاسفة العظام في نفس الوقت (مثل أرسطو وسقراط وأفلاطون وأرخميدس) وفي مدينة لا يتجاوز عدد سكانها 25ألف نسمة يعتبر حدثا نادرا وتوافقاً يصعب تكراره ..
وبالمقابل يبدو أن النصف الثاني من القرن العشرين كان من الفترات التي انحسر فيها مد العبقرية وتراجعت خلاله ظاهرة التميز الفردي.. فحتى عقد الخمسينيات ظهرت أسماء لامعة لعباقرة أبدعوا وتميزوا وغيروا أشياء كثيرة في حياة الناس (كأنشتاين وأديسون وفارادي وماركوني وعلي مشرفة) أما اليوم فرغم الادعاء القائل بأن 97% من العلماء الذين وجدوا خلال التاريخ يعيشون في هذا العصر، وأن هناك أكثر من أربعة ملايين باحث (4،87% منهم في الدول المتقدمة) إلا أن أيا منهم لم يستطع التميز بمفرده أو يحدث تغييرا جذريا في أي مجال - كما فعل أنشتاين في الفيزياء أو داروين في الأحياء أو فرويد في علم النفس ..
والنقطة الأخيرة تقودنا للتساؤل إن كان لسيطرة "نظام الفريق" في الأبحاث العلمية دور في إزاحة الأسماء الفردية من دنيا العبقرية.. فهذه الأيام من الصعب تصور عالم أو مخترع يعمل بمفرده؛ فتشعب العلوم، وتشابك الاحتياجات وارتفاع تكلفة الأبحاث العلمية يفرض على العلماء العمل ضمن "مشروع مشترك" تحت إشراف هيئة متخصصة (كشركة أو جامعة أو معامل كبرى) . وفي الدول المتقدمة تخصص اليوم ميزانيات ضخمة لأغراض البحث العلمي والمشاريع العملاقة.. وتعتبر أمريكا الدولة الرائدة بهذا المجال حيث يساهم كل مواطن فيها ب " 331دولارا" للأغراض البحثية (وتأتي في المرتبة الثانية اليابان ثم روسيا فألمانيا ففرنسا بمعايير التسعينات) ..
وهذا بدوره دليل على أن المشاريع العلمية الحالية أصبحت من الضخامة والتشعب درجة صعوبة تنفيذها إلا عبر شركة ضخمة أو دولة عملاقة؛ فمشاريع غزو القمر مثلا كلفت الولايات المتحدة أكثر من مائة بليون دولار، وإنجاز مشروع "الصادم الذري" اقتضى تعاون كافة الدول الأوروبية ويكلف أكثر من ثمانية بلايين دولار، أما تلسكوب هابل الفضائي فكلف وكالة ناسا وحدها 2بليون دولار بالإضافة إلى رواتب 300عالم وفني يتابعونه باستمرار!
إذا؛ لا نبالغ إن قلنا أن المشاريع العلمية الكبرى أصبحت اليوم تتطلب موافقة المجالس النيابية في الدول المتقدمة وتجعل من الصعب على أي باحث العمل بمفرده.. وبناء عليه يمكن القول أن العباقرة لم ينقرضوا ولكن آلية الإبداع ذاتها مالت نحو العمل المؤسساتي والانتاج الجماعي الضخم.. وهكذا أصبح عباقرة اليوم جزءا من "المؤسسة" وترسا صغيرا ضمن آلة علمية ضخمة قد تسمى "وكالة ناسا" أو"شركة شارب" أو "معامل باستير" أو "جامعة هارفارد" ..
.. هذه الحقيقة أذكر بها كل من يحاول الإبداع بمفرده - وأهمس بها في أذن كل مؤسسة وطنية وجامعة محلية لم تستوعب رسالتها بعد!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق